الأربعاء، 18 مارس 2020
أنا أدوّن، إذن أنا موجود
4:04 ص
هل يكتب المدوّنون ما يُقرأ لمن يقرأ؟ وهل التدوين هو حركة واعية تُدرك أهدافها وغاياتها، أم أن التّدوين هو تهويم في الفوضى وممارسة التّعرّي ونشر الغسيل الداخلي على الحبال الإلكترونية وأشياء أخرى..؟. هناك تجارب فردية وأخرى جماعية جديرة بالوقوف عندها وتعمّق تفاصيلها وملامحها، ورصد الأهداف التي قامت من أجلها وما أنجزته خلال مسيرتها.. فقد يكون التدوين رافدا إعلاميا يجب استثماره، وقد يكون رافدا معرفيا وعلميا وو..
شخصيا، أغواني التدوين، ليس من أجل البحث عن أجوبة لما طرحته من أسئلة، فليس مُهمّا أن يكون لكل سؤال جواب.. ولا أملك القابلية لأنفق الوقت والجهد في مطاردة أجوبة هي أشبه بخيط دخّان في سماء صافية.
لنسلّم أن التدوين صار مثل "كوجيتو" ديكارت وفي الإمكان القول:"أنا أُدوّن إذن أنا موجود"، فالأكيد أن هناك من يدوّن من أجل أن يتنفّس بعض أكسيجين الحرية الإلكترونية، وهناك من يبحث عن عالم خصب يزرع فيه همومه ومشاكله وأحلامه – سواء كانت تعنيه أو تعني مجتمعه- لعلها تتلاقح وتتناسل فتنبت وتكبر وترشد مع الأيام، من يدري ربما تُنجب حركات التدوين العربي قوى ضاغطة مُشبعة بوعي التغيير الفاعل.. أو لعلها تُنتج "الكمياء" التي تبحث عنها الشعوب كي تعيد صبغ وقائعها بغير الأصباغ السوداوية حينا والقاتمة الحمرة أحيانا والغائمة في كل الأحايين..
تفاصيل الحياة اليومية تتشابه في كل الأقطار العربية، والكائن البشري العربي أينما كان على الجغرافية العربية يريد أن يتكلّم ويصرخ ولا يريد أن يسمع وينصت، يريد أن يكتب ويقول ولا يريد أن يقرأ ويتابع.. فالمدوّنون العرب يشتركون في استطعام نكهة الحياة بلسان واحد.. والمدوّنات تهب "نعمة" التعبير بلا حدود وبلا قيود.. وتمنح المدوّن أن يختار نوع الضريبة التي يدفعها في النهاية، سواء دوّن باسمه الصريح أو تحت مُعرّف مٌقنّع.. والأمثلة عن الضرائب التي دفعها بعض المدوّنين كثيرة وتتشابه عبر أقطارنا العربية، وهي ضرائب باهضة أحيانا وتدعو إلى التساؤل: هل حقّا للتدوين قوة تأثير يخشاها من يخشاها، ويرهبها من يرهبها.. أم أن الأمر هو استشراف لما سيكون عليه التدوين وخنقه في بداياته وترهيب المدونين هو عملية تدجين مُسبقة ومسخ للقادم قبل أن يُولد؟؟
مهما يكن، أعتقد أن طابع الفردانية والفوضوية لمّا يزل يطبع مسار حركة التدوين ويجب أن تتشكل خارطة خاصة بالتدوين العربي مُوزّعة حسب مجالات التدوين وتخصاتصه، كما يجب أن يكون التدوين مجال استثمار قابل للتفعيل لا سيما في إطار الفعاليات الحقيقية للمجتمع المدني.. ويجب أن يكون للتدوين مدوّنة أخلاقية تُعنى بالضوابط والمعايير وأدبيات النشر ووو.. بعيدا عن كل وصاية رسمية أو شبة رسمية، فالوصاية العربية لا تؤمن بسن البلوغ والرّشاد..
هي كلمة افتتاحية لمدونة مسماريات، كلمة قصيرة قابلة أن تتمدد على مدونة اختارت شعارها:" أنا أدوّن، إذن أنا موجود". مسماريات في طور التشكيل ومن يجد في نفسه الرغبة كي يلقي بمسامير في الطريق فنحن نرحبّ بكل كائن بشري عربي يؤمن بالكوجيتو الجديد "أنا أدوّن إذن أنا موجود".
السبت، 7 مارس 2020
كوجيتو..أنا أدوّن إذن أنا موجود
11:32 ص
هل يكتب المدوّنون ما يُقرأ لمن يقرأ؟ وهل التدوين هو حركة واعية تُدرك أهدافها وغاياتها، أم أن التّدوين هو تهويم في الفوضى وممارسة التّعرّي ونشر الغسيل الداخلي على الحبال الإلكترونية وأشاء أخرى..؟. هناك تجارب فردية وأخرى جماعية جديرة بالوقوف عندها وتعمّق تفاصيلها وملامحها، ورصد الأهداف التي قامت من أجلها وما أنجزته خلال مسيرتها.. فقد يكون التدوين رافدا إعلاميا يجب استثماره، وقد يكون رافدا معرفيا وعلميا وو..
شخصيا، أغواني التدوين، ليس من أجل البحث عن أجوبة لما طرحته من أسئلة، فليس مهما أن يكون لكل سؤال جواب.. ولا أملك القابلية لأنفق الوقت والجهد في مطاردة أجوبة هي أشبه بخيط دخّان في سماء صافية.
لنسلّم أن التدوين صار مثل "كوجيتو" ديكارت وفي الإمكان القول:"أنا أدوّن إذن أنا موجود"، فالأكيد أن هناك من يدوّن من أجل أن يتنفّس بعض أكسيجين الحرية الإلكترونية، وهناك من يبحث عن عالم خصب يزرع فيه همومه ومشاكله وأحلامه – سواء كانت تعنيه أو تعني مجتمعه- لعلها تتلاقح وتتناسل فتنبت وتكبر وترشد مع الأيام، من يدري ربما تُنجب حركات التدوين العربي قوى ضاغطة مُشبعة بوعي التغيير الفاعل.. أو لعلها تُنتج "الكمياء" التي تبحث عنها الشعوب كي تعيد صبغ وقائعها بغير الأصباغ السوداوية حينا والقاتمة الحمرة أحيانا والغائمة في كل الأحايين..
تفاصيل الحياة اليومية تتشابه في كل الأقطار العربية، والكائن البشري العربي أينما كان على الجغرافية العربية يريد أن يتكلّم ويصرخ ولا يريد أن يسمع وينصت، يريد أن يكتب ويقول ولا يريد أن يقرأ ويتابع.. فالمدوّنون العرب يشتركون في استطعام نكهة الحياة بلسان واحد.. والمدوّنات تهب "نعمة" التعبير بلا حدود وبلا قيود.. وتمنح المدوّن أن يختار نوع الضريبة التي يدفعها في النهاية سواء دوّن باسمه الصريح أو تحت معرّف مٌقنّع.. والأمثلة عن الضرائب التي دفعها بعض المدوّنين كثيرة وتتشابه عبر أقطارنا العربية، وهي ضرائب باهضة أحيانا وتدعو إلى التساؤل: هل حقّا للتدوين قوة تأثير يخشاها من يخشاها، ويرهبها من يرهبها.. أم أن الأمر هو استشراف لما سيكون عليه التدوين وخنقه في بداياته وترهيب المدونين هو عملية تدجين مُسبقة ومسخ للقادم قبل أن يُولد؟؟
مهما يكن، أعتقد أن طابع الفردانية والفوضوية لمّا يزل يطبع مسار حركة التدوين ويجب أن تتشكل خارطة خاصة بالتدوين العربي مُوزّعة حسب مجالات التدوين وتخصصه، كما يجب أن يكون التدوين مجال استثمار قابل للتفعيل لا سيما في إطار الفعاليات الحقيقية للمجتمع المدني.. ويجب أن يكون للتدوين مدوّنة أخلاقية تُعنى بالضوابط والمعايير وأدبيات النشر ووو.. بعيدا عن كل وصاية رسمية أو شبة رسمية، فالوصاية العربية حتى تؤمن بسن البلوغ والرّشاد..
هي كلمة افتتاحية لمدونة مسماريات، كلمة قصيرة قابلة أن تتمدد على مدونة اختارت شعارها:" أعنّي على الهدم، أعينك على البناء". مسماريات في طور التشكيل ومن يجد في نفسه الرغبة كي يلقي بمسامير في الطريق فنحن نرحبّ بكل كائن بشري عربي يؤمن بالكوجيتو الجديد "أنا أدوّن إذن أنا موجود".
الخميس، 25 نوفمبر 2010
أنا أدوّن، إذن أنا موجود
8:48 ص
شخصيا، أغواني التدوين، ليس من أجل البحث عن أجوبة لما طرحته من أسئلة، فليس مُهمّا أن يكون لكل سؤال جواب.. ولا أملك القابلية لأنفق الوقت والجهد في مطاردة أجوبة هي أشبه بخيط دخّان في سماء صافية.
لنسلّم أن التدوين صار مثل "كوجيتو" ديكارت وفي الإمكان القول:"أنا أُدوّن إذن أنا موجود"، فالأكيد أن هناك من يدوّن من أجل أن يتنفّس بعض أكسيجين الحرية الإلكترونية، وهناك من يبحث عن عالم خصب يزرع فيه همومه ومشاكله وأحلامه – سواء كانت تعنيه أو تعني مجتمعه- لعلها تتلاقح وتتناسل فتنبت وتكبر وترشد مع الأيام، من يدري ربما تُنجب حركات التدوين العربي قوى ضاغطة مُشبعة بوعي التغيير الفاعل.. أو لعلها تُنتج "الكمياء" التي تبحث عنها الشعوب كي تعيد صبغ وقائعها بغير الأصباغ السوداوية حينا والقاتمة الحمرة أحيانا والغائمة في كل الأحايين..
تفاصيل الحياة اليومية تتشابه في كل الأقطار العربية، والكائن البشري العربي أينما كان على الجغرافية العربية يريد أن يتكلّم ويصرخ ولا يريد أن يسمع وينصت، يريد أن يكتب ويقول ولا يريد أن يقرأ ويتابع.. فالمدوّنون العرب يشتركون في استطعام نكهة الحياة بلسان واحد.. والمدوّنات تهب "نعمة" التعبير بلا حدود وبلا قيود.. وتمنح المدوّن أن يختار نوع الضريبة التي يدفعها في النهاية، سواء دوّن باسمه الصريح أو تحت مُعرّف مٌقنّع.. والأمثلة عن الضرائب التي دفعها بعض المدوّنين كثيرة وتتشابه عبر أقطارنا العربية، وهي ضرائب باهضة أحيانا وتدعو إلى التساؤل: هل حقّا للتدوين قوة تأثير يخشاها من يخشاها، ويرهبها من يرهبها.. أم أن الأمر هو استشراف لما سيكون عليه التدوين وخنقه في بداياته وترهيب المدونين هو عملية تدجين مُسبقة ومسخ للقادم قبل أن يُولد؟؟
مهما يكن، أعتقد أن طابع الفردانية والفوضوية لمّا يزل يطبع مسار حركة التدوين ويجب أن تتشكل خارطة خاصة بالتدوين العربي مُوزّعة حسب مجالات التدوين وتخصاتصه، كما يجب أن يكون التدوين مجال استثمار قابل للتفعيل لا سيما في إطار الفعاليات الحقيقية للمجتمع المدني.. ويجب أن يكون للتدوين مدوّنة أخلاقية تُعنى بالضوابط والمعايير وأدبيات النشر ووو.. بعيدا عن كل وصاية رسمية أو شبة رسمية، فالوصاية العربية لا تؤمن بسن البلوغ والرّشاد..
هي كلمة افتتاحية لمدونة المُدوّن العربي، التي ستكون بيت قوالب بلوجر الاحترافية خدمة للتدوين العربي.
السبت، 10 أبريل 2010
قالت الوردة" للشاعر "عثمان لوصيف"..بيان شعري من أجل الإنسان الكوني
11:09 ص
من شفاهي تنزلق الكلمات
سمكا أخضرا
ذهبي الزعانف و الزغبات
شاعر... شفتي زهرة
و يداي لغات
تسكر الأرض حين أغني
و ترقص أشجارها العاشقات
و الفراشات ترتفّ فوق رموشي
و تستيقظ النجمات
في هنيهات انثيال الرؤيا على الكائن الشعري، تكون الذات الشاعرة تحت وقع صدمة كهروشعرية. فتُصاب بارتجاج ارتيابي تتمثل فيه حضورها و امتداداتها و أبعادها. و خلال هذه المسافة، تحدث التفتّقات الإبداعية وتتداعى اللغة الشعرية الخاصة وتلتحف الألفاظ معاني الحالة الصوفية... ولا يرتدّ الكائن الشعري، إلى طبيعته إلا وقد نثر على الأوراق عرائس انثيالاته. غير أن هناك شاعر، يتواطؤ مع واقعه، فتكون ذاته الشاعرة مشبعة بترسبات وعوالق، ومثقلة بموانع وعوائق تمنعها من التحليق في كل الفضاءات... هذا الشاعر، صادر حريته المخيالية وتنازل عن العرش الفاضل الذي توّجته به الرسالة الشعرية... شاعرنا سفّه واقعه وتحرر من كل اللزوميات والفروض وراح يرتاد المجاهيل، ليثبّت الطبيعة ويعيد إليها عذريتها المستلبة، وليحقق الهوية الإنسانية الخاصة لذاته البشرية ، كذات نمطية لكل البشر المنكسرين تحت وطأة الكفر بالطبيعة والفاقدين للإحساس بالقيمة الإنسانية.
آه – يا وردة السهو
غني لمعجزة الخلق
وابتهجي..
ليس هناك من ينكر على الورد رقّته وجماله وما يزرعه في نفسية ناظره، من مباهج وأحاسيس لذيذة . الورد جميل بذاته وهو جميل بصمته وما يختزنه من معاني ومفاهيم سامية، في إطلاقها... وحتى اليوم لم يجد العشاق أبلغ من الورد للتعبير عن آيات العشق في أعماقهم. ولعل الورد قد اختزل كل لغات العالم في أكمامه وأبدع لغة إنسانية مُوحّدة تخاطب الشعور المتسامي وحده .. شاعرنا، أدرك ذلك و أدرك أن الشاعر المتصوّف هو قدّيس العشاق بامتياز، لأنه المُولّه بالعشق للعشق و هو راهب الجمال في محراب الرموز التي تمثل كل جميل . وإذن، فهو الأقدر على فك شفرات لغة الورد وهو الأعرف بأشكال مخاطبتها .. و لأن معجزة الخلق، هي اتحاد منسجم بين آيتي العشق والجمال، فإن وردة واحدة ، في استطاعتها أن تغني لمعجزة الخلق ، إذا ما دعاها شاعر متصوّف... هي وردة السهو، أو وردة الروح المُولّهة التي ألفت المعراج إلى بحيرات الطهر السماوية ، قبل أن يأسرها جسد الطين . وكأن الروح قبل خلق الجسد كانت وردة انصهر فيها منتهى الجمال و العشق.
صيحة الأمر دوّت
وكن ! فاستجاب السكون العميق
وحنت نواقيسه فاختلج
ولها...
و اشرأبّ الظلام امتزج
بالرؤى و المرايا التي لألأت
أنجما وهزج
الشاعر وحّد بين عقله وروحه وألغى مجال التصادمية بينهما . فقد صهر خبرته الوجودية وما ترسّب في ذهنه من معارف علمية بمدركاته الصوفية، فأنتج بعدا خاصا، عقلن الشعور ووحد بين البعد العقلي و البعد العاطفي الانفعالي واستطاع أن يخضع المعرفة العلمية للمدركات الصوفية، دون تنافر أو تناقض.. وراح يعرض لنظرية خلق الكون العلمية بفاهمية صوفية، تجعل من هذا الخلق معجزة يجب أن يستوقفها التأمل والتدبر، من منظار صوفي يعنى بالعشق والجمال. فالسكون العميق (مرحلة العمى) استجاب لصرخة الأمر كُن ، عشقا وولها في الخلق ذاته . وكأن الله أحب الخلق فخلق، وكأن الأصل في الخلق هو الحب، وكأن معجزة الخلق ابتدأت بآية العشق ( الحب).
آه... من أي قاع سحيق
ومن أي بيداء أو عدم
يتدفق هذا الضياء
وتزهر بالصور الفاتنات
وبالسحر هذه السرج ؟
بعد آية العشق، تدفقت آية الجمال، حينما تدفق الضياء ولألأت النجوم بعد مخاضات البروق والرعود والرياح.... فاكتملت معجزة الخلق – الأولى – بانصهار آيتي العشق والجمال. وها هو الشاعر الصّوفي، يضعنا في مواجهة حقائق الأمور وأعادها الروحية، التي لا تدركها فتوحات العقل وحده. ويتجاوز بنا النظريات المعرفية الجامدة و مظهريات الحياة الزائفة، تجاوزا يمنح التأمل والتدبّر في كتاب الكون، الدلالة المفتاحية ، لقراءة مظهريات الحياة وما تبسطه من إشكاليات حول معناها وأسرارها...
يا دم الكون
يا ... دمي
أجّج العشق نارا ونور
واتل للعاشقين كتابك
كي تستفيق العقول
وتزهر بالمجد هذي السطور
يحاول الشاعر، أن يزرع الاغتراب الكوني في الحس الإنساني، بغية عزله عن الكيان البشري الزائف، لتحريره، ثم إعادة صياغته وفق آيتي الخلق الأولى (العشق والجمال ) ، ليوجد قوة منعزلة بذاتها في عمق الآدمي ، يمكنها أن تُطهّر الكائن البشري من كل الخطايا ، التي تركبه في عصر الضلال وتحرّره من سيطرة مطلقة لعقل برهن فشله المتكرر، لبلوغ الغاية الإنسانية ... فأدوات هذا العقل، تتطور في حدود ضيقة بالتفاعل مع دواعي الاستمرار الوجودي، وكثيرا ما خرجت هذه الأدوات عن سيطرة مبدعها ، فصار الكائن البشري عبدا لها ومهددا كوابيسها .
هي ذي سُدُم أنا صادمها
هي ذي جزر أنا راسمها
أتخطىّ النجوم إلى المنتهى
.....................
سندباد الأعالي أنا
ها المجرات تسبح بي
وتقلّدني هالة من جلال البهاء
الروح الإنسانية، هي جوهر سماوي خالص ومطهّر تمام التطهّر من عوالق الخطيئة و مكتنز لنورانية الكمال، شهدت التحولات الكونية الأولى، التي تفاعلت فيها ذات الذّرات والعناصر المشكلة لجسد الطين الذي يأسرها... لا تتساءل عن الحقائق العلمية لنشأة الكون ولا تبسط ذاكرتها لتقارع مكتشفات العقل فيما كانت شاهدا فيه، بل تحاول أن تؤكد بشهادتها، أن تاريخها، منفصل عن تاريخ جسد الطين الذي يأسرها وعن تاريخ خلق الكون المادي... ولعل أقصى ما تطمح إليه، هو التأكيد، أن آيتي العشق والجمال متأصّلتين فيها وأسرها في الجسد، هو تأصيل للآيتين في إنسانية الإنسان. بمعنى، أن هذا الآدمي هو إنسان بروحه قبل أن يكون كائنا بشريا بعقله.
أي لغز أنا ؟
أي أسطورة بالرّدى ترتطم
وتظل تسافر من رحم ل رحم ؟
كم رسمت الخرائط
كم بت أطعن ليل العدم
كم كتبت الشموس
وأعطيت شكل الكواكب
شكل البحار وشكل الدّيم
كل ما قدّمته المعرفة العقلية ، من معارف علمية ، أعانت على فهم الظواهر الطبيعية وتفكيك عناصرها وتسخيرها... والغاية هي كيفية إعداد الكون، من أجل أن يمارس علية الآدمي حياته. ولكنها لم تستطع أن تضبط العلاقة الروحية بين الإنسان والعناصر الأولية لهذا الكون. ولم تستطع، أن تحدد، دور الإنسان في الكون، انطلاقا من تلك العلاقة. فتقنعه برسالة معينة، حينما يعتقد فيها، يحقق إنسانيته. كل ما قدمته المعرفة العقلية، ساق إلى القلق والاضطراب ولخوف من الآتي... المعرفة العقلية، تُحدّد الآدمي، ككتلة مادية من العناصر مستقلة بذاتها وبتفاعلاتها عن منظومة الكتل المادية المنتشرة في الكون... وشاعرنا يبحث في أصل العناصر الكونية التي انطلقت من صرخة الأمرٌ كنٌ، وكانت الروح شاهدة على ذلك، من موقع ما... وإذن، فإن علاقة حميمة، أشبه بعلاقة الدم، تربط موجودات الكون، وهذه العلاقة تدركها المعرفة الصوفية بأدوات الصوفي الخاصة.
كم عبرت صحارى القرون العجاف
هتكت حجاب الظلم
وتسلقت فجر القمم
كم وقعت على هامتي ميتا
غير أني ارفض أن أنهزم
لم أزل منذ مليون عمر مضى
أتذكر كل الملاحم والمعجزات
وكل الصواعق والنيازك
كل البراكين والحمم
لم يستطع جسد الشاعر، أن يكتسب أسباب سعادته مما يمتد أمامه من موجودات يمكنه ملامستها وامتلاكها، ومن وسائل في استطاعته تملّكها وتوظيفها، فراح يرنو إلى سعادة روحية خالصة، مستغرقا في الوهج الصوفي، إلى الحد الذي يتحول فيه الشاعر إلى كائن أثيري، يفتّش في ذاكرة الروح.. فينطلق من عذابات الواقع الجزئية والمجزّأة وينتهي إلى تجربة روحية شاملة ، ينتفي فيها الزمن الفيزيائي وتنفتح بوابات الاستكشاف أمام سندباد الأعالي ، فيؤرخ لمليون عمر مضى ، على زمن الروح المتواصل في الساعة السرمدية. ورحلة سندباد الأعالي، هي محاولة جريئة جدا لتأكيد كشوفات العقل المعرفية، في سياق الاتحاد بالكون واستنطاق عناصره الأولى. ليس من أجل عقلنة الحالة الصوفية وإلباسها بعدا علميا، و لكن من أجل تأكيد المعرفة الصوفية و مدركاتها، كمفتاح أساسي في قراءة الأبعاد المهملة للإنسان. وأيضا، من أجل رفع حالة الاغتراب الكوني، التي يحياها الشاعر وتأكيد اغتراب الإنسانية، ليس فقط عن بعدها الكوني ولكن اغترابها عن جسد الطين الذي يأسرها... وكأن الكائن البشري، يحيا حالة احتباس روحي فظيعة، أحدثت بينه وبين معجزة الخلق (آيتي العشق والجمال) قطيعة مهولة.
مقلتا امرأة خطّتا قدري
ويدان تشيران لي
أن أفق
السماوات تغسلني بالنبيذ
وتلبسني سندسا ويقق
ها هنا نهر يتلاغى
هنا زهر يتناغى
هنا سدرة ونبق
السماوات...
يا للسماوات من شاعر يحترق
إن العشق و الجمال، آيتان قيميتان ، تدركهما الذات المرهفة التي تمتلك أدوات التفكّر والتدبّر في معجزة الخلق وتمتلك فيضا إيمانيا ، يطهرها من رجس الانجذاب إلى مستنقع المساحيق والأقنعة والواجهات المزيفة .. وكل ما أبدعته المعرفة المادية و أغرقت فيه دنيا الإنسان، فخنقت أنفاس البشرية و صدتها عن اكتناه حقيقتها الإنسانية... ولعل الشاعر قد أدرك، بحدسه الصوفي ، أن التغلغل إلى أعماق العقلية المادية وتفجير ثورة قيمية بداخلها، يستلزم اكتساب الذات البشرية ، أبسط أدوات التواصل مع معجزة الخلق... فوجد بإدراكه الصوفي، أن المرأة هي آخر ما تبقى من مفاتيح للولوج إلى فضاءات الذات البشرية.. و المرأة تختزل كل الأبعاد القيمية الفاضلة، فهي رمز العطاء الخصب الازدهار و هي وسيلة تفجير ثورة العشق و هي أبجدية قراءة الجمال. فمن لا يعشق لا يستطيع أن يستبطن منطقة الأحاسيس في أعماقه و لا يستطيع أن يكتشف ممالك القلب في دخيلته. ومن لا يهتز للجمال وينتشي بلذاته السحرية، لا يمكنه أن يراقص عرائس الذوق في ذاته ولا يستطيع أن يلامس حقيقته الإنساني.
حينما يلتقي عاشقان هنا
تحبل الأرض بالمعجزات الكبار
وآياتها تكتمل
إن امتلاك القدرة على قراءة الجمال بروح عاشقة، يفجر ينبوع الإنسانية في أعماق الذات ويطهر الكائن البشري من خطايا العقل الضال بمعارفه... والتقاء عاشقين، هو أسمى مراتب التوحد بذات الطبيعة، في ميقات خارج سياق الزمن الفيزيائي... وعبر هذا الالتقاء وحده، تسقط جغرافية الحدود وقوانين الجنسية وحواجز اللغات... لأن آية كبرى تتكشف على ارض البشر وهي ميلاد الإنسان الكوني ( المتحد بعناصره الكونية ) ... إن ميلاد الإنسان، من رحم المرأة و ميلاد الإنسان الكوني من المرأة ببعديها العشقي والجمالي... فالخلق في رحم المرأة ، والخلق بالمرأة ذاتها ، في المنظور الصوفي لشاعرنا .
آه... يا قارئي
لا تقل : عبثا كل هذا السفر
عدت مكتنزا بالمعاني
ومحتشدا باللظى و المطر
المرايا ترفرف حولي
البروق تطوّقني
وتفيض على مقلتي ألوف الصور
ليس عبثا أن يعانق الشاعر زهرة روحه ويرتاد المجاهيل الكونية والدياميس المقفلة، بحثا عن السر الذي يوحد بني البشر ويطابق بين الإنسانية والطبيعة والكون... فيكشف لنا وحدة الروح الإنسانية وحقيقة الإنسان الكوني الذي ترسم الروح منحى عقله ويقوم تاريخه الكوني مقام الضمير فيه... وقد قدم لنا الشاعر، كشفا صوفيا، لا تتعارض فيه المعارف العلمية مع المدركات الصوفية. وهو لا يمنحنا فرصة التساؤل عن هُويّته الوجودية، ربّما حتى لا يورطنا في الكشف عن سره الصوفي الذي فتح له المسالك التي لم يبصرها العلم و لم يتبصّرها التّأمل و لم يدركها المخيال الفني..
آه يا جسد الطين يا جسدي
إن سلختك بالأمس عني
وغادرت هذا التراب وهذي الحفر
فلكي أتبطن غامض سري
وأنحت من صاعق الرعد
معنى لهذا الوجود
وارفع بالدم والنار
معراج كل البشر
حماري والعرب
10:49 ص
قلتُ: حقّا، ليس هناك أغبى من الحمير تضع نظارة سوداء في هذا الليل البهيم، ألا يكفي الدنيا اسودادا حتى تراها من خلال السواد؟
قال: أيها الفطن.. حتى لا تلمحني عيون الليل التي لا تنام وأنا أتسلّل إلى "مُعتزلك" فيتّهمونك بالجنون لاعتزالك الناس ومسامرة حمار، أو لعلّهم يلفّقون لك تهمة جاهزة من التّهم المركونة في أدراج المكاتب.
قلتُ: لا عليك يا أبو فهيم (أنا عربيّ إذن أنا متّهم)، أو أنا على الأقل مشروع متّهم بالتخلف والإرهاب والتّعصب ومعاداة الإنسانية وباقي مشتقات "الشّر" المُسوّقة إعلاميا أو تلك المخبوءة في مختبرات "إعادة تمييع العربي".
قال: جميل أنك مُدرك لهذا الأمر وتعترف به، ولكنك ستبقى مُتّهما يا عزيزي حتى يتأكد العرب من هوّيتهم ويتثبّتوا من تاريخهم إن كانوا عربا حقيقة أم أنهم مجرّد مخلوقات آدمية لم تُصنّف بعد على سلّم التصنيف البشري؟
قلتُ: ويحك يا حمار أتطعن حتى في "بشرية" الإنسان العربي، وتجعل للبشر الذين أكرمهم الله سلّم وتصنيفات؟
قال: رويدك، رويدك.. فهذا دأبكم يا عرب، تنفعلون حتى يخشى الحمير أن الأرض مرفوعة على قرن ثور، ثم تنفجرون كفقّاعة صابون. أنا لم آت بشيء من عندياتي، فقد قرأت في الأسفار التي كان يحملها جديّ الأوّل على ظهره أن العرب الأوائل امتازوا بطباع العزة والكرامة والنجدة والإباء.. حتى أن صرخة "وا معتصماه" لمّا يزل صداها يدوّي في أذنيّ. أما عرب اليوم فلا أجد فيهم تلك الطّباع، ويُقال أنه "تزول الجبال ولا تزول الطباع"، فإما أن من انتسبتم إليهم لم يكونوا عربا، وإما أنكم لستم عربا وتزعمون زورا وبهتانا انتسابكم لعرب العزة والكرامة؟
قلتُ: حتى الحمير صارت تعيّرنا.. الأيام دول يا حماري ودهرٌ لنا ودهرٌ علينا، ثم أننا لسنا في عجلة من أمرنا فنحن "خير أمة أُخرجت للناس" وسوف ينصرنا الله طال الزمن أم قصُر.
قال: هذا تمام الانهزامية والخذلان، "إن الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم".. ألا تخجل من حاضرك وأنت تستذكر تاريخك؟ ثم كيف تأمل في دهر يكون لكم وأنتم "تُبّع" لا تُعدّون ولا تستعدون للمستقبل، بل أنكم تعبثون بثرواتكم ومواردكم وتستنزفون قدراتكم وترهنون مستقبل أجيالكم بحماقاتكم.. والأمم من حولكم نصبت راياتها على القمر وتطمع في استعمار المريخ وأنتم لم تستطيعوا حتى ضمان أمنكم الغذائي والمائي والترابي أيضا..
قلتُ: إلزم حدودك ولا تنسى أنك مجرد حمار يتخفّى عن أنظار البشر حتى لا تطاله أيديهم.. أنت لا تتابع نشرات الأخبار ولا ترصد الملتقيات والمؤتمرات والقمم العربية، فأنت جاهل بالمشاريع العربية الكبرى وبرامج الوحدة الاقتصادية والأمنية وتوحيد المنظومات التعليمية والصحية و، و.. العرب قادمون يا حمار، قد يصلون ولا تكون أنت موجودا، ولكنهم حتما سيصلون.
قال: كفى هراء، فلعلهم عندما يصلون لن يكونوا عربا، بل غربا في لبوس عرب. هيّا كن شجاعا واعترف أن العربيّ يحيا بلا معنى ويموت بلا ثمن، فالشباب يهاجرون على زوارق الموت هروبا من أوطانهم، أو يرتمون في الحشيش والمخدرات فرارا من وقائعهم أو يطاردون أحدث تقليعة شعر وآخر ألبوم وأشهر نجم.. والموت المجاني ينتشر على الجغرافية العربية، اغتيالات وتقتيل وتفجيرات واحتلال. وصوت إخوتك في فلسطين وصل إلى حدود مجرّة التابانا والعرب منذ "انتفاضاتهم الانفعالية" زمن الحرب على غزة، ركنوا إلى معارك الرغيف وكأن ما يحدث الآن من تهجير وتقتيل وتجويع وحصار أمر مقبول مادام ليس فيه طائرات وخراب تنقله الفضائيات.. يا عزيزي العرب بحاجة إلى جمعيات تدافع عنهم مثل جمعية الدفاع والرفق بالحيوان.
قلتُ: أيها الجاحد "تأكل غلّتنا وتسبّ ملّتنا"، لعلك جاسوس جئت لتندسّ بيننا وتنقل تفاصيل حياتنا وتنفث فينا سموم الأعداء في جسدنا العربي؟
قال: هذا ما تُفلحون فيه بامتياز، تحجُرون على حرية التفكير وتصادرون حرية التعبير ومن يصارحكم بما فيكم تتهمونه بالعمالة وأنتم أعداء أنفسكم.
قلت: للجدران آذان أطول من أذنيك، فصه عن الكلام ودعني أقضي ليلتي بسلام.
قال: أطعمني ليصمت لساني فإذا "شبعت البطن تقول للرأس غنّ".
قلت:إليك بما يخرس لسانك فكل ثم غني واتركني أنعم بليلة هانئة.
السبت، 3 أبريل 2010
رجاء لا تظلموا أبا لهب
1:21 م
كان أبو لهب نائما في غياهب القرون، يترقّّب يوم النّشُور كي يدفع ضريبة جاهليته ويصلى نارا ذات لهب، وإذا بالجاهلية ذاتها مستيقظة فينا بظلمها وظلماتها وفسادها وقبائلها المتناحرة.. وإذا بأبي لهب يتناسل "متناسخا" في دنيا الناس بلا خوف من النار ذات اللهب، فهو حاكم أو رجل أعمال أو مسؤول أو أو.. حتى صارت سطوة المال وسياط الجاه وممارسة الرشاوي والاختلاسات والفوضى والعبث بحقوق البسطاء.. وكل ما فعله أبو لهب وكل ما لم يفعله ويتجاوز قدرة عبقريته الجاهلية، صارت من شعائر الحياة اليومية وعنوان الصباحات والمساءات العربية، حتى كادت هذه الشعائر أن تخرج بالقلوب المؤمنة والضمائر الحيّة إلى عوالم الكفر والمكاره والمناكر.
في تلك الجاهلية البعيدة كان هناك أبو لهب واحد، وكان هناك صعاليك لا يتكرّرون، هائمين في الفلوات والشّعاب يستأنسون بالوحوش ويعلنون رفضهم وتمرّدهم دون أن تطالهم سيوف القبيلة..
وكانت هناك أعراف وتقاليد، هي "دساتير" القبائل والعشائر، لها منزلة القداسة والخروج عنها قد يشعل نيران حروب يمتد لهيبها إلى عشرات السنين دون أن تخبو أو تنطفئ.. كان هناك نوع من النظام يحكم حركة القوافل ويفصل في قضايا الانتماء والانتساب ويحفظ "الهيبة" وينتصر للشرف وو.. وأبدا، لم يكن هناك أقنعة وأكاذيب، فالأسياد أسياد والعبيد عبيد، كلّ يعرف وزنه وموقعه وحقوقه ويمارس "جاهليته" بلا تستّر ودون تغطية تحت مفاهيم وهمية..
كانت جاهلية لم تخلُ من حكمة وبطولات وفضائل، وهي جاهلية لها أعذارها في توحّشها وإهدارها لقيمة الإنسان وحتى في قذارتها، فلم يكن هناك دين سماوي ولا فكر علمي ولا تكنولوجيا.. كل ما كان هنالك يدعو إلى الكرّ والفرّ أو الحلاب والصرّ.
أما جاهلية هذا الزّمن الأعرج، ففي كل يوم يُولد أبو لهب وصار الحديث يدعو إلى رصد "بني لهب".. وتكاثر الصعاليك والشطّار وقطّاع الطرق والأعناق والأرزاق.. فقط، تحت مسميات أخرى وبأشكال مختلفة.. ولكنها جاهلية تنيرها أضواء التكنولوجيا وترويها العلوم والفنون والمنظّمات والأحزاب والهيئات والمفاهيم وحرية التعبير وحقوق الإنسان وو..
وإذن لماذا ينظر العرب إلى جاهلية أبي لهب وكأنها مرحلة العار في تاريخهم؟ ولماذا لا يذكرون في معرض مفاخراتهم إلا المراحل الذهبية في تاريخهم.. رغم أن صنّاع ذلك التاريخ يختلفون عن عرب جاهلية اليوم في كل شيء.. حتى في طباع الشهامة والرجولة والنجدة وو.. ولأن الطبائع قد زالت، فمن يكون هؤلاء الذين يتسمّون عربا؟ أو من يكون أولئك الذين سموا أنفسهم عربا؟ فلا يمكن للـ"عربين" أن يكونا أبناء الخيمة والبعير.
أقسم لو أن صعاليك جاهلية القرون الغابرة بُعثوا في دنيا الناس اليوم وعايشوا ذل وهوان الراهن، لتبرؤوا من انتمائهم للعرب.. أبو لهب ذاته، يكون أكثر تحضّرا ممّن يضعون أيديهم على المصاحف والدساتير ويقسمون على إجراء العدل وخدمة الأوطان، ثم يرتدّون إلى ممارسة الأفعال المخلّة بتاريخ الأمة ومستقبل أجيالها..
رجاء لا تظلموا جاهلية أبي لهب، فبنو لهب يسكنون فيكم وبينكم، ومنهم من يتلو "تبّت يدا أبي لهب وتبّ ماله وما كسب" ثم لا يتردّدون في مد أيديهم للي الأعناق ومصادرة الأرزاق.. وإفناء الحياة، وتبّت أيادي بني لهب...
الثلاثاء، 9 مارس 2010
قُبّعات من ورق
1:41 ص
وقد تبدو هذه المسألة شكلية أو إجرائية عابرة لكن اضطرار الكاتب إلى تغيير عنوان مقال قبيل النشر بساعات، لا بد أن له أسباباً قد لا تخطر ببال القارئ العزيز.
وللعناوين حكاية تطول لو فتحنا ملفها، فقد سادت في مرحلة ما عناوين رومانسية لا علاقة لها بالمقالات أو الكتب التي تقع تحت مظلاتها، وقد يظن القارئ لأول وهلة أن كتاباً بعنوان الدراما الآسيوية هو عن المسرح في آسيا، لكن ما إن يقلب الصفحة الأولى من الكتاب حتى يجده مليئاً بالجداول والإحصاءات عن الأوضاع الاقتصادية في القارة العجوز.
وآخر ما يخطر ببال قارئ كتاب “الجرح والقوس” لناقد بريطاني أن الكتاب ليس شعراً أو رواية بل هو سلسلة من المقالات الفكرية، كما أن كتاب “الطريق إلى فنلندا” ليس في الجغرافيا بل في التاريخ والمفاهيم والأفكار.
وحين أخبرني صديق ذات يوم بأن عنوان كتابه الذي أعده للنشر هو “شجر الغابة الحجري” ظننت للوهلة الأولى أنه كتاب جيولوجي ثم فوجئت بأنه كتاب في نقد الشعر، والأطرف من هذا كله أنني أصدرت كتاباً قبل فترة ليست قصيرة بعنوان “الكف والمخرز”، وعلمت أن عدداً من القراء ظنوا أنه المادة التلفزيونية التي حملت هذا الاسم، وهو في الحقيقة دراسة سوسيولوجية وسياسية لأوضاع فلسطين بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967.
وآخر ما انتبه إليه ناشر كتاب “جيري روبين” الذي حمل عنواناً غريباً هو “اسرق هذا الكتاب” هو أن الطلبة الأمريكيين سينفذون أمر المؤلف ويسرقون نسخ الكتاب بالفعل من المكتبات والأكشاك.
وما يضاعف من تشابه العناوين والمانشيتات في الصحف العربية هذه الأيام هو الأحداث المتكررة، والوتر الواحد المشدود بين المحيط والخليج، إذ يندر في الآونة الأخيرة أن يقرأ الناس شيئاً خارج المدارات الثلاثة: فلسطين والعراق ولجان التحقيق في اغتيال الراحل الحريري، إضافة الى مدار رابع أضافته الولايات المتحدة وأوروبا مؤخراً وهو المفاعلات النووية الإيرانية.
ويذكرنا هذا التكرار الأشبه بشرّ لا بد منه بحكاية رواها أحد المؤرخين عن الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور، فقد قال إن شوبنهاور كان يتردد يومياً على مطعم بريطاني، ولا يسمع من الزبائن غير حديث متكرر عن الخيل والنساء والطقس، ثم قرر أن يضع على مائدته جنيهاً ذهبياً في كل مرة يدخل فيها الى المطعم، وحين سأله نادل المطعم عن السبب قال إنه رهان بينه وبين نفسه، فهو سيترك الجنيه على المائدة إذا تحدث الإنجليز في شأن رابع.
نعم، إن العناوين سواء كانت لكتب أو لمقالات هي أشبه بالقبّعات، وحين يرتدي ألبرت اينشتاين مثلاً القبعة ذاتها التي يرتديها البقال أو بائع النقانق، فإن هذا لا يكفي قاسماً مشتركاً.. خصوصاً بعد أن يخلعوا قبعاتهم.